المقــــــــدمة لقد واجهت مختلف الحكومات الفرنسية المتعاقبة منذ اندلاع الثورة ، القضية الجزائرية بمبدأ القوة والقمع محاولة منها تصفيتها ، اعتبارا منها أن الثوار هم من الخارجين عن القانون وقطاع الطرق . غير أن صمود الثورة واتساع صداها داخليا وخارجيا دفع بهذه الحكومات لإتباع سياسة المناورة والمراوغة ، وتجلى ذلك في مجموعة من المخططات والقوانين في جميع الميادين . ومن ثم كانت إشكاليتي البحث كالتالي : •فيما تمثلت أهم المخططات الاستعمارية التي اتبعتها الحكومة الفرنسية لتصفية الثورة ؟ •كيف كانت ردود الأفعال عليها ؟ وللإجابة على هذه الإشكاليتين اتبعنا الخطة التالية : المبحث الأول : المخططات العسكرية المبحث الثاني : فتضمن المخططات الاقتصادية والاجتماعية وأخيرا المبحث الثالث : كان بعنوان ردود أفعال الثورة وقد اعتمدنا في كتابة هذا البحث على مجموعة من المراجع كان أهمها : ثورات الجزائر في القرنين التاسع عشر و العشرين ليحي بوعزيز . فرنسا و الثورة الجزائرية للدكتور ً غالي غربي ً وأخيرا نسأل الله لما فيه الخير والصلاح والسداد ويهدينا إلى سبيل الرشاد .
المبحث الأول: المخططات العسكرية المطلب الاول: خطي شال وموريس حينما أدركت السلطات الاستعمارية الفرنسية الأهمية الإستراتيجية للحدود الشرقية والغربية, كمنافذ رئيسية تتسرب من خلالها الأسلحة والذخيرة القادمة من البلاد العربية والإسلامية والأوربية. وتحول هذه المناطق كقواعد خلفية تمون وتدعم العمل المسلح داخل الجزائر, راحت هذه السلطات تفكر في إيجاد وسيلة لسد هذه المناطق وقطع أي اتصال للثورة مع الخارج فاهتدت إلى فكرة إنشاء الخطوط والسدود المكهربة والشائكة.(1) 1.إنشاء خطي شال وموريس: لقد أمر وزير الدفاع الفرنسي "أندري موريس" بإقامة خط شائك مكهرب بين الحدود الجزائرية التونسية في أواخر عام 1956, أطلق عليه اسمه. وقد انتهى من بنائه في أيلول(سبتمبر) 1957.(2) يمتد هذا الخط المكهرب من شاطئ البحر شرقي مدينة عنابه إلى جنوب مدينة تبسه على مشارف الصحراء.(3) وفي نفس الوقت أقيم خط مماثل على الحدود الجزائرية المغربية يمتد من مرسى بورساي العربي بن مهيدي قرب السعيدية إلى بشار جنوبا على مسافة 700 كم.(4) وفي خريف 1958 شرعت القوات الاستعمارية في بناء خط شال الشائك المكهرب والملغم, ولم تحف سنة 1959 حتى كان الخط مكتملا ليدعم الخط السابق. وكهذا وقع دعم خط موريس بخط جديد ابتداء من القالة مرورا بالطارف لينتهي بسوق أهراس. ويتواصل من هناك في اتجاه الجنوب ابتداء من سوق أهراس مرورا بحمام تاسة, قمبيطا, ونزره, المريج, عين الزرقة, الكويف. غير أن كثافة العمل في خط شال كانت قد تمركزت في الشمال بين سوق أهراس و القالة.(5)
(1) د.غالي غربي, فرنسا والثورة الجزائرية 1954- 1958, غرناطة للنشر والتوزيع, الجزائر, 2009, ص276. (2) محمد لحسن أزغيدي, مؤتمر الصومام وتطور ثورة التحرير الوطني الجزائرية 1956- 1962, دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع, الجزائر, 2005, ص 182. (3)يحي بوعزيز, ثورات الجزائر في القرنين التاسع عشر والعشرين, ط2, منشورات المتحف الوطني للمجاهد, الجزائر, د.س, ج2, ص- ص 222- 223. (4)د.غالي غربي, المرجع السابق, ص 277. (5) د.يوسف مناصريه وآخرون, الأسلاك الشائكة وحقول الألغام, منشورات المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954, الجزائر, 2007, ص 166.
|
وبتصريح من الجنرال ديغول عن ماهية الخطوط يقول:".. وقد أقيمت الحواجز على حدود الجزائر مع تونس والمغرب, قوامها منشآت دفاعية محمية بشكل دائم ومغطاة بمعوقات من الألغام والشريط الشائك, وبفضل هذه التدابير لن تتمكن القوات الثائرة التي تلجا إلى البلاد من الدخول إلى الجزائر قبل عقد الصلح ما لم نقدم على فتح الطريق لها بملء إرادتنا.."(1)
2.مواصفات خطي شال وموريس:
يتكون الخطين من أسلاك شائكة وخيوط وأعمدة بث فيها التيار الكهربائي تتراوح طاقته بين 5000 و7000 فولت بعرض يتراوح مابين 6 إلى 12 مترا والى 60 مترا في بعض المناطق الإستراتيجية الحساسة.(2)
زرعت أرضيتها بالألغام المختلفة تمتد على طول الجانبين يبلغ عرضها 5 أمتار في كل جانب بمعدل 50 ألف لغم كل 20 كم, أما المسافة التي تفصل بين كل لغم وآخر لا تتعدى 50 سم, والألغام فيها أنواع كثيرة:
1.ألغام مضادة للأفراد.
2.ألغام مضادة للجماعات أمريكية الصنع.
3.ألغام مضيئة تشتعل بمجرد قطع الأسلاك من طرف جيش التحرير الوطني لتنطلق شرارات مضيئة في السماء.
4.ألغام قاطعة للأرجل.
5.ألغام تصيب في محيط 25م من مكان الانفجار.(3)
وتشديدا في الرقابة عززت هاته الخطوط بالمراكز العسكرية, وأبراج المراقبة, والطائرات, والرادارات, والدوريات.
ولضمان المراقبة الدائمة للخط المكهرب جندت فرنسا أكثر من 80000 جندي من طلائع الوحدات الخاصة مجهزين بأحدث المعدات العسكرية والأسلحة الأوتوماتيكية ومنهم 4 أنواع:
1.ذوي القبعات السوداء "المظليين" باراشوتيست.
2.ذوي القبعات الحمراء "الكولون" الأقدام السوداء.
3.ذوي القبعات الخضراء "اللفيف الأجنبي" لاليجوترانجي.
4.الكومندوس, الخيالة, المشاة, فيالق التدخل السريع.(4)
(1)د.غالي غربي, المرجع السابق, ص 277.
(2)نفسه, ص- ص 277- 278.
(3)الطيب بن نادر, الجزائر حضارة وتاريخ, دار الهدى للطباعة والنشر والتوزيع, الجزائر, 2008, ص 185.
(4)نفسه, ص- ص 185- 187.
وقد بلغت تكاليف انجاز كيلومتر واحد من هاته الخطوط حسب المصادر الاستعمارية الفرنسية بـ 2.500.000 ف.ف أما تكاليف إقامة المركز العسكري الواحد فقدرت بحوالي 15.000.000 ف.ف.(1)
3.أهداف فرنسا من إنشاء خطي شال وموريس:
ومما سبق يبرز وبشكل جلي الخوف الكبير الذي انتاب القادة الفرنسيين الذين لم يعرفوا الراحة والاستقرار, بسبب الحركة النشيطة لقوافل التسليح التي نجحت في مهمتها التموينية في كثير من المرات.
وعلى هذا الأساس, سعت الإدارة الاستعمارية إلى تحقيق الأهداف التالية, والتي عدت في منظور الإستراتيجية الاستعمارية أساسية, نظرا لدورها المحوري في إنجاح الإستراتيجية الرامية إلى القضاء على الثورة .
1.تمكين القوات الاستعمارية من القيام بالمراقبة الحدودية على نحو جيد وفعال, قصد منع المجاهدين المحملين بالذخيرة والسلاح القادمين من تونس والمغرب من الدخول إلى الجزائر بغرض خنق الثورة.
2.كشف وضبط وتحديد حركة ومكان المجاهدين, على مستوى الخط المكهرب, عن طريق الإعثارات القبلية والرادارات وإفشال محاولات العبور, كذا تسهيل عملية التدخل السريع والفوري لقوات الاستعمار.
3.السعي إلى عزل ولايات الداخل عن قيادة الثورة في الخارج, وكذا منع مسؤولي وقادة الولايات من التنقل باتجاه الخارج.
4.السعي إلى عزل الثورة عن القواعد الخلفية بتونس والمغرب. نظرا لما تمثله من ثقل استراتيجي في دفع وتعزيز وتطوير الثورة.
5.توفير وضمان الحماية الاقتصادية, من خلال حماية السكة الحديدة وكذا الطريق الرابط بين عنابه, تبسه, ونقرين.(2)
(1)د.غالي غربي, المرجع السابق, ص 279.
(2)جمال قندل, خطا موريس وشال وتأثيرهما على الثورة التحريرية 1957- 1962, وزارة الثقافة, الجزائر, 2008, ص- ص 60- 61.
المطلب الثاني: مخطط شال لقد عمل ديغول منذ مجيئه إلى الحكم على تدعيم مركزه حتى يستطيع أن يتصرف بحرية, فاستحدث في فرنسا دستور الجمهورية الخامسة. واخذ يحدث تغيرات في تيارات الجيش المختلفة وبخاصة في الجزائر حيث عين الجنرال شال في ديسمبر عام 1858 قائدا عاما للقوات البرية خلفا للجنرال آلار, فاجتهد في إدخال تطوير على الأساليب التي كان يتبعها الجيش الفرنسي ضد الثورة. وكان الجيش الاستعماري حتى ذلك الوقت يتبع أسلوب القيام بعمليات تطهير واسعة وكبيرة للمناطق التي يدعونها "متعفنة" بأعداد ضخمة من القوات البرية والجوية تدوم من أسبوع إلى 3 أسابيع أو 4 شهور ثم ينتهي, ولكن الجنرال شال قرر أن يعدل عن إتباع هذه الأساليب, واقترح مشروعا آخر واسع كان قد بدا في وضعه وتخطيطه منذ شهر أكتوبر 1958 قبل أن يصبح قائدا عاما ودخل حيز التنفيذ ابتداء من يوم 4 فيفري 1959 على أن ينتهي في أكتوبر من نفس السنة.(1) وقد سطر الجنرال شال برنامجه حسب الخطة التالية والمتمثلة في: أولا تهدئة الولاية الخامسة, ثم جبال الونشريس بين الولاية الرابعة والخامسة فجبال الظهرة وطريق الاتصال بين الولاية الأولى والثانية والثالثة. ثم تهدئة الولاية الثالثة, وأخيرا تهدئة الولاية الثانية.(2) أما الطريقة التي اتخذت لتطبيق هذا البرنامج تتلخص في إتباع الخطوات التالية: 1.المحافظة على مراكز الكادرياج مع التخفيف والتقليل منها ما أمكن, واستعمال وحداتها في تكوين فرق صغيرة لتحطيم الثورة ومقاومة جيش التحرير. 2.إصدار الأوامر للوحدات العسكرية بأن تكون دائبة الحركة حتى تفرض مراقبتها المستمرة للمناطق التي تعسكر بها على أن تكون أكثر خفة وسريعة في التنقل لمتابعة فرق جيش التحرير ولو خارج مناطقها. 3.تكليف سلاح الطيران بمراقبة تلك المناطق مراقبة مستمرة طوال النهار دون إهمال أو كلل.(3)
(1)يحي بوعزيز, المرجع السابق, ص- ص 233- 234. (2)محمد لحسن أزغيدي, المرجع السابق, ص 196. (3)يحي بوعزيز, المرجع السابق, ص 234.
4.تجنيد المزيد من فرق "القومية" و "الحركة" للمساهمة في هذه العمليات العسكرية باعتبارهم من الأهالي يعرفون أكثر عن غيرهم مخابئ الثوار وأسرارهم عند الأهالي, هذا إلى جانب أنهم لا يتورعون عن ارتكاب أبشع الجرائم ضد الأهالي لإرغامهم على إفشاء أسرار الثورة والمجاهدين, خدمة لأسيادهم المستعمرين. 5.القيام بعمليات عسكرية ضخمة تشترك فيها قوات كبيرة جوية وبرية تركز جهودها في منطقة واحدة حتى تطهرها من فرق جيش التحرير ونظام الجبهة, ثم تنتقل إلى منطقة أخرى لتقوم بنفس الدور وهكذا. 6.احتلال تلك المناطق والتمركز فيها وإنشاء فرق في الكومندوس لتواجه فرق جيش التحرير واحدة بواحدة.(1) وبناء على تلك الخطة, بدا الجنرال شال بالشروع في برنامجه بالولاية الخامسة, في 4 فبراير 1959. وسمى عمليته الكبرى هذه بالتاج, وقادها ثلاث ضباط: الجنرال غامبير, وايرزانو والعقيد بيجار, واستغرقت حتى 9 أفريل 1959. ثم انتقل إلى العملية الثانية, التي سماها "الحزام" بالولاية الرابعة, واستغرقت مابين أفريل وماي 1959, تحت قيادة الجنرال "ماسو" ثم العملية التي سماها "الشرارة" بالولاية الأولى, واستغرقت من جوان إلى جويلية 1959. وبعدها عملية "المنظار" بالولاية الثالثة وقادها الجنرال "شال" نفسه, وتقرر لتستغرق باقي صيف 1959, ثم تقدم نحو الولاية الثانية, وسمى عملته بها "الأحجار الكريمة", تحت قيادة الجنرال "أوليه", وبدأت في نوفمبر 1959 لتنتهي قبل حلول فصل الشتاء. وبعد أن انتهى الجنرال شال من عمليته الأولى, بالولاية الخامسة, دون أن تعترضه أي مقاومة من طرف جيش التحرير الوطني, ظن أن عمليته قد نجحت, وأنها تمت تهدئة الولاية الخامسة نهائيا, وبهذه المناسبة كتب الجنرال ديغول رسالة إلى الجنرال شال يهنئه على نجاح عمليته, جاء فيها:"إن العمليات العسكرية الأخيرة التي جرت في وهران تحت إشرافكم قد سارت سيرا حسنا ونفذت تنفيذا رائعا, وارجوا أن تبلغوا الجنرال غامبير وغلى بقية القادة والفرق الموجودة تحت قيادته ابتهاجي بهم. أما فيما يخص التطورات القادمة لبرنامجكم الذي سطرتموه لتحقيق التهدئة فارجوا أن تتأكدوا من ثقتي الكاملة فيكم".(2) لقد أثبتت الأحداث أن هذه العمليات العسكرية لم تتحقق أهدافها المنشودة أمام عزم جيش التحرير الوطني وتنظيمه المحكم والذي تميز بحرب العصابات وتجنب المواجهة, والتحكم مع الشعب عن طريق التنظيم السياسي والإداري لجبهة التحرير الوطني الذي توغل في صفوف الشعب على الرغم من المحتشدات التي نظمتها فرنسا ضده بهدف عزله عن الثورة.(3)
(1)يحي بوعزيز, المرجع السابق, ص- ص 235- 236. (2)محمد لحسن أزغيدي, المرجع السابق, ص- ص 197- 198. (3)د.يوسف مناصريه وآخرون, المرجع السابق, ص 179.
|
المطلب الثالث: مخططات عسكرية أخرى
1.تقوية الجهاز العسكري:
وفي بداية عام 1955 اشتدت أعمال جيش التحرير, وبدأت السلطات الاستعمارية تدرك أن الأمر لم يكن من عمالة جماعة من "المقلقين", وإنما وراءه جهاز وعمل دائب وأهداف كبيرة, فقررت أن تزيد من قواتها العسكرية.(1)
فقد أعادت القوات الاستعمارية ترتيب قواتها وفقا للمتطلبات الجديدة, ترتيبا عميقا في التنظيم والتنسيق بين مختلف القوات المدنية والعسكرية, وفي هياكل جيوشها الثلاثة, وفي طرق الإجراءات التكتيكية والنفسية وارتكزت الترتيبات خاصة على نوعية وحجم الإطارات المتكونة في الجزائريين(خونة الثورة) وغيرهم.(2)
فقد كانت القوات الاستعمارية المتمركزة في الجزائر, قد بلغت حتى فاتح جويلية 1959 أكثر من 612.390 رجل كانت موزعة كالتالي:
• القوات البرية: 392.500 رجل.
• القوات البحرية: 10.900 رجل.
• القوات الجوية: 310.500 رجل.
• قوات الدرك: 13.100 رجل.
• قوات وحدات المقاطعة: 78.500 رجل.
• قوات الحركة: 39.850 رجل.
• فرق المخزن: 18.520 رجل.
• الدفاع الذاتي: 18.810 رجل.
وكانت هذه القوات موزعة عبر القطر الجزائري كله بحيث انتشرت 101.000 على الناحية الغربية, و 128.500 على الناحية الشرقية, 128.500 على الناحية الوسطى و 26.000 كلفوا بمهام أخرى عبر الوطن.
وعلى أساس هذه القوات المذكورة نفذت فرنسا مخططاتها العسكرية ضد الثورة, واعتمدت بالخصوص على فرقها العسكرية بوحدات الصاعقة القاصة, ووحدات الاحتياط العامة.(3)
(1)يحي بوعزيز, المرجع السابق, ص 214.
(2)د.يوسف مناصريه وآخرون, المرجع السابق, ص 174.
(3)نفسه, ص 176.
2.المحتشدات:
أمام الانتصارات الباهرة للثورة التحريرية, على مختلف الأصعدة أيقنت السلطات الاستعمارية أنه يجب التفكير في مناهج وطرق جديدة من خلالها تحرم الثورة من منابعها الأصلية التي تستمد منها استمراريتها وانتصاراتها, اهتدت السلطات الاستعمارية إلى أسلوب قمعي, كان النازيون قد جربوه على الشعوب التي احتلوها, والمتمثل في إقامة المحتشدات أو المعسكرات والتي أطلق عليها تمويها "مناطق الأمان".(1)
وهكذا قامت القوات الفرنسية بتهجير سكان الريف من مساكنهم وتجميعهم في محتشدات قريبة من مراكزها العسكرية, حتى تضمن الفصل التام بين الشعب وجيش التحرير, وهكذا اخذ يرتفع عدد المرحلين من "335 ألف" في سبتمبر 1958, و "740 ألف" في شهر أكتوبر 1958 إلى أكثر من مليون في شهر أفريل 1959 وقد استمر المستعمر في سياسة التهجير إلى المحتشدات, حتى وصلت في أول ديسمبر 1960, إلى "مليون وستمائة ألف" محتشد, ووصل العدد الإجمالي لهذه المحتشدات إلى "3462", منها "1200" قد سماها المستعمرون بالقرى الجديدة.(2)
لقد صرح اغلب المسؤولين الفرنسيين على إثر اندلاع الثورة المسلحة أنه لم تقع في القطر الجزائري "محتشدات". كما جاء في تصريح السيد "بورجيس مونوري" وزير الداخلية الفرنسي من فوق منبر المجلس الوطني الفرنسي أثناء مناقشة هذا الأخير "حالة الطوارئ" بقوله:" إن وضع بعض الناس في إقامة جبرية عملا بهذا القانون, لا يعني أبدا وأصلا أنه سيقع إنشاء معتقلات أو محتشدات وليس الأمر مجرد السير نحو إنشاء تلك المحتشدات".
وأكد ذلك السيد "جاك سوستيل" الوالي العام للجزائر الذي كان من أبطال المقاومة الفرنسية, والذي ذاق تحت نيران الألمان طعم الظلم والاستبداد الوحشي وقاد تحت إمرة الثائر الفرنسي الأول فرق الفداء والتضحية. فقد قال هو الآخر بأنه لن يسمح بأن يقع في القطر الجزائري تحت سلطته وأيام ولايته شيء ما كان قد ثار ضده وحمل بنفسه السلاح لمقاومته في بلاده.
غير أن الواقع يبين لنا أنه قد حدث العكس تماما. وذلك من خلال وجود المحتشدات التالية التي سميت تعمية وتضليلا "بمراكز الإيواء".
• محتشد قلتلة الصطل.
• محتشد آفلو.
• محتشد شلال.(3)
(1)د.غالي غربي, المرجع السابق, ص174.
(2)محمد لحسن أزغيدي, المرجع السابق, ص 202.
(3)أحسن بومالي, إستراتيجية الثورة الجزائرية في مرحلتها الأولى 1954- 1956, المؤسسة الوطنية للاتصال والنشر والإشهار, الجزائر, د.س, ص- ص 179- 181.
|
|
ولئن كانت المحتشدات, في ظاهرها, نقمة على الجزائريين, فإنها في الحقيقة قد ساعدت كثيرا على نشر مبادئ وأهداف جبهة التحرير الوطني. إذ سرعان ما تحولت منابع لا تنبض تزود روافد الكفاح المسلح سواء في الريف أو في المدينة.
ومن الأكيد أن مستوى الوعي والإدراك لدى الجماهير الجزائرية قد ارتفع بنسبة عالية جدا بفضل ما قدمته المحتشدات من معرفة, ما كان بالإمكان نقلها في مثل تلك السرعة,
على مثل تلك الجموعات الهائلة. ذلك أن كل من يخلى سبيله, ويرجع إلى ذويه, يتحول تلقائيا إلى داعية متشبع بالعقيدة قادر على الإقناع.
وهكذا, نستطيع القول بان حالة الطوارئ. التي كان المقصود منها شل الحركة النضالية وإخماد النشاط الثوري, قبل استفحاله, قد أتت بنتائج عكسية سيكون لها مفعول كبير في صقل روح المقاومة, خاصة عند النخبة من أبناء الشعب الجزائري.(1)
3.التعذيب:
لم تكن ممارسة التعذيب من طرف الفرنسيين , وليد الثورة الجزائرية, وإنما كان ممارسة قديمة وسلوك شبه آلي بالجزائر. ارتبط بأعمال الاضطهاد والعنف والإبادة ومختلف أشكال القهر التي تفنن في ممارستها ضباط الجيش الفرنسي, على الجزائريين للقضاء على أية محاولة وطنية تتخلص من نير الاستعمار أضحى رهان استخدام التعذيب ضرورة حتمية وإستراتيجية متبعة من طرف الإدارة الاستعمارية, تمكنها من الاحتفاظ بالجزائر الفرنسية, لان "التخلي عن الجزائر سيعتبر جريمة وهذه الجريمة لا نستطيع دفع ثمنها" كما قال جاك سوستيل وتجلت ملامح هذه الإستراتيجية, مع تزايد الوعي الوطني الذي أعقب نهاية الحرب العالمية الثانية, الذي توج بانتفاضة الثامن من مايو 1954.
ومع اندلاع الثورة التحريرية, تصاعدت وتيرة اللجوء إلى استخدام التعذيب, كوسيلة لتركيع الشعب الجزائري وإذلاله وتحطيم معنوياته.(2)
(1)محمد العربي الزبيري, الثورة الجزائرية في عامها الأول, ط1, دار البعث للطباعة والنشر, 1984, ص- ص 106- 107.
(2)د. غالي غربي, المرجع السابق, ص 282.
أما الأساليب التي كان يجريها زبانية الاستعمار الفرنسي على المستنطقين فهي عديدة ولكنها تشترك جميعها في التعذيب الوحشي المجرد من الإنسانية نذكر من بينها ما يلي:
*التعذيب بالكهرباء: إن التعذيب بتسليط التيار الكهربائي على أجساد المستنطقين من أقدم وسائل التعذيب عند البوليس الفرنسي بالجزائر, ورد إليها مع ورود الكهرباء. إذ كان في بداية الأمر يسلط على المتهمين بالجرائم. ولما قامت الحركة الوطنية الجزائرية واشتد ساعدها صار يسلط على مناضليها وأبطالها الميامين.
أما عن اندلاع الثورة المسلحة فقد أصبح ضرورة من ضرورات الاستنطاق لابد وان يذوق كل معتقل, فزبانية الاستعمار يوصلون هذا التيار بجسم الضحية بوضع سلك خاص في أماكن (العفة والسرة) من الإنسان أو بوضعه في الأظافر أو في الأذن أو في اللسان وفي كل مكان حساس وكثير من المعذبين أزهقت أرواحهم وماتوا بهذا التيار.(1)
*التعذيب بالماء: وتتم بواسطة إدخال أنبوب الماء في فم السجين مع رفع وتيرة ضغط الماء, ثم طرحه أرضا والضغط عليه بالأرجل, ليخرج الماء من جميع منافذ جسمه. ومن الطرق الأخرى التي يستخدم فيها الماء غطس رأس السجين في حوض ماء مع الضغط على مؤخرة رأسه لمنعه من استنشاق الهواء. أو إرغامه على شرب المياه القذرة المتعفنة باستعمال قطعة من الشاش أو السباحة في هذه المياه وإرغام السجناء على تنقيتها من الفضلات فيها.(2)
*التعليق منكسا: كان من أفحش أساليب التعذيب عند زبانية المستعمر تعليق المستنطق منكسا كالشاة الذبيحة, رجلاه إلى أعلى ورأسه إلى أسفل, ويتركونه هكذا فترة من الوقت ثم ينزلونه وهو في حالة الإغماء وقد تفككت أعصابه.
*نزع الأظافر وقلع الأسنان: من أفتك أساليب الاستنطاق نزع الأظافر بالمحددات والكلاليب, وقلع الأسنان والأضراس واحدة إثر واحدة, ونتف الشعر من الأماكن المختلفة من جسم الإنسان, وكذلك إخاطة الأصابع اليدوية والرجلية والخيوط الغليظة, وتركيز القدمين على لوحة مليئة بالمسامير وهذا بعد تشريح اليدين والرجلين بالسكاكين.
*تسليط الكلاب الضارية على الضحية: من أفضع الأساليب التي التجأ إليها زبانية الاستعمار تسليط الكلاب الضارية المدربة على المستنطق وإغراؤها بالضحية, فبعد التعذيب والنكال بالكهرباء والماء والجلد وغيرها يترك الضحية بالعراء ثم يرسل عليه الكلب فيأخذ في تعذيبه.
*دفن الأحياء: عندما ينتهي زبانية الاستعمار مع المستنطق إلى باب مسدود رغم الأساليب الجهنمية التي أجروها عليه يلجأون إلى الحل الذي يريحهم منه في هذه الحالة, وهي أنهم يحفرون حفرة بقدر قامة الإنسان ثم يوقفونه في الحفرة ويهيلون عليه التراب حتى لا يبقى منه إلا جزء يسير ويتركونه هكذا بالعراء في شدة القيظ والبرد إلى أن يموت.(3)
هذه صورة مصغرة لعمليات التعذيب والتشريد التي كانت تجري في الجزائر طوال سنوات الثورة, بل هي قطرة ماء من بحر محيط مما كان يتحمله شعب الجزائر ويتعرض له في سبيل الانتقام لعزته وكرامته المداستين, واستعادة حريته القومية, واستعادة استقلاله الوطني المسلوب, وقد فضحت الثورة إبان معركة التحرير الكبرى كثيرا من هذه الأساليب الوحشية الماكرة, وكشفت للعالم اجمع خبث الاستعماريين وإجرامه الذي حاولوا دون جدوى إخفاءه.(4)
(1) أحسن بومالي, المرجع السابق, ص 184.
(2)د.غالي غربي, المرجع السابق, ص 304.
(3)أحسن بومالي, المرجع السابق, ص- ص 185- 190.
(4)يحي بوعزيز, المرجع السابق, ص- ص 256- 257.
|
.مكتب الشؤون الأهلية: تم استقدام ضباط الشؤون الأهلية, أو ضباط الصاص, إلى الجزائر منذ عام 1955, ومعظمهم ممن تدرب في مدرسة الماريشال ليوتي بالمغرب الأقصى, وتخصصوا في دراسة فنون ووسائل الاتصال بالسكان, وعادات وتقاليد المجتمع الريفي, وأتقنوا لهجاته المختلفة حتى يسهل عليهم الاندماج فيه. وقد أسندت إدارة هؤلاء الضباط إلى الجنرال بارلانج وأوكل إليهم أمر محاربة الثورة بأساليب سليمة تسير في خط مواز إلى جانب الأساليب العسكرية, ولذلك نجد أن كل مركز عسكري بالجزائر يوجد إلى جانبه مركز لضباط الصاص ليخدم كل منهما الآخر. ومن عادة هؤلاء الضباط أنهم يحاولون دائما أن يظهروا أنفسهم في ثوب إنساني, فيتصنعون البشاشة والعطف, ويبدون استعدادهم لمساعدة السكان, فيوزعون عليهم بعض المواد الغذائية, ويطلبون منهم أن يعلنوا عن احتياجاتهم حتى يوفروها لهم, ويشجعونهم على إبداء آرائهم بكل حرية, ويفتحون في وجوههم أبواب الأمل العريضة حتى ليظن البسيط الساذج منهم أن هؤلاء الضباط ليسوا فرنسيين أبدا, وأنهم مخلصين حقا للأهالي, جاؤوا لمقاومة الظلم والطغيان ولو كان مصدره بنو جنسهم, وفي هذا الجو من الهدوء والمسالمة والعطف والحنان المتصنع يحاول هؤلاء الضباط بكلمة من هنا, وسؤال عرضي في مسألة تافهة من هناك, أن يحصلوا على معلومات وأخبار ذات طابع عسكري يمكن استغلالها في محاربة جيش التحرير, فيوجهونها فورا إلى الضباط العسكريين المكلفين بالعمليات الحربية ليستغلوها في الحال.(1) 5.قانون حالة الطوارئ: وحتى تتمكن فرنسا من القضاء على الثورة بسرعة, شرعت في بداية عام 1955 في وضع قانون حالة الطوارئ لتطبيقه بالجزائر, وفرغت وزارة الداخلية من إعداده في 19 مارس من نفس العام, وتقدمت به إلى البرلمان الفرنسي الذي وافق عليه في أول شهر أبريل على أن يطبق بالجزائر لمدة ستة شهور, وهي الفترة التي حددتها فرنسا للقضاء على الثورة.(2) وقد خول القانون السلطات العسكرية والمدنية صلاحيات مطلقة لاتخاذ الإجراءات التالية: • النفي والإقامة الجبرية. • تحديد تحرك الأشخاص ووسائل النقل في أماكن وأوقات معينة. • مداهمة المنازل في كل الأوقات وتفتيشها. • تشديد الرقابة على الصحافة والمنشورات ومختلف وسائل الإعلام المرئية والسمعية, مما يقوي سيطرة الحكومة على توجهات الرأي العام الفرنسي وحتى الجزائري. • محاكمة الأشخاص المدنيين من قبل المحاكم العسكرية والاستثنائية, دون مراجعة أحكامها.(3)
(1) يحي بوعزيز, المرجع السابق, ص- ص 248- 249. (2)نفسه, ص 214. (3)د.غالي غربي, المرجع السابق, ص 269.
المبحث الثاني: المخططات الاقتصادية والاجتماعية المطلب الاول: مشروع سوستيل 1955
بعد اندلاع الثورة الجزائرية لم يكن بيد الحكومة الفرنسية سوى اختيار طريق الحرب كحل وحيد, وأمام فشل محاولات القوة الأولى, ضاعفت الحكومة الفرنسية من عدد الجيش الفرنسي بالجزائر, الذي ارتفع من 56500 إلى 83400 في فيفري 1955, وقد توهمت الحكومة الفرنسية أن تعيين شخص مثل سوستيل واليا عاما على الجزائر, من شأنه أن يفتح الطريق لحل فرنسي,(1) السيد سوستيل الفيلسوف العبقري الذي أعلن في أول خطاب له أمام المجلس الجزائري: بأن فرنسا لن تغادر الجزائر مثلما يستحيل عليها أن تغادر مقاطعة لابروفانس أو لابروطان, أن فرنسا اختارت سياستها, وهذه السياسة هي الإدماج, لقد حاول سوستيل أن يكون بليغا في عباراته, وكان يظن أن الجزائر ميدان فسيح للخطب البليغة الرنانة, وتصور نفسه في إحدى قاعات المحاضرات بالسوربون يشحذ فيها قريحته ليبدع في ترصيع الألفاظ والعبارات, ولكن الثورة كانت أبدع منه وأبلغ وأحذق.(2) لكن سوستيل عندما تأكد من فشل القوة العسكرية, انصرف إلى المناورة السياسية, فأجرى اتصالات مع بعض السياسيين الذين اشتهروا بالمواقف "الإصلاحية", على أمل إيجاد جبهة سياسية جديدة, تتمتع بالعطف الفرنسي, وتصرف الجماهير الشعبية عن طريق الحل الجذري الثوري. والحلم الأساسي الذي كان يراود سوستيل هو أن تتطور هذه الجبهة السياسية الجديدة, في ظل العطف الفرنسي, إلى درجة تمكنها من إيجاد فرق مسلحة تعارض بالقوة فرق جيش التحرير الوطني.(3)
(1)د.عبد الله شريط و مبارك الميلي, مختصر تاريخ الجزائر, المؤسسة الوطنية للكتاب, الجزائر, 1985, ص- ص 288- 289. (2)يحي بوعزيز, المرجع السابق, ص 214. (3)د.عبد الله شريط و مبارك الميلي, المرجع السابق, ص 289.
|
لأجل ذلك, فانه رمى في الميدان بمحاولة خاصة أطلق عليها اسمه, وهي عبارة عن برنامج إصلاحي موجه إلى كافة ميادين الحياة, ويشتمل على عشر نقاط يمكن تلخيصها في الآتي:
1.تقسيم إداري جديد لإنشاء عمالات ودوائر أخرى, وفي اعتقاد سوستيل فإن هذا الإجراء سيسهل عملية المراقبة ويضبط حركة المواطنين.
2.تعصير الفلاحة, وذلك عن طريق المكنكة, لعل الأسلوب الحديث يلهي الجزائريين ويشدهم إلى الأرض, فلا يلتحقون بصفوف جبهة التحرير الوطني.
3.توسيع الصناعة الخفيفة, قصد خلق الوظائف ومناصب الشغل التي تمتص طوابير العاطلين قبل أن تمتد إليهم يد الثورة الزاحفة.
4.تحويل البلديات المختلطة قصد خلق الانسجام الإداري, ومن أجل الاستجابة لأحد مطالب النخبة في الجزائر.
5.استقلال الدين الإسلامي عن الإدارة الفرنسية, وذلك يكون استجابة لأحد المطالب الأساسية التي تنادي بها جمعية العلماء.
6.تعليم اللغة العربية في المدارس الحكومية, مع العلم أن هذه النقطة تشكل مطلبا تنادي به كافة التشكيلات الوطنية في الجزائر.
7.محاربة الأمية بواسطة اللغة الفرنسية, لعل ذلك يقرب الجزائريين أكثر إلى الأمية الفرنسية.
8.فتح أبواب التكوين المهني للجزائريين حتى يشعر الشباب خاصة بأن هناك مساواة بينهم وبين أبناء المعمرين.
9.تمكين الفرنسيين المسلمين من الالتحاق بالوظيف العمومي حتى لا يبقى ذلك السلك حكرا على المستعمرين, وحتى تحضر الشروط الضرورية لخلق طبقة جديدة تستفيد من الحياة الرغدة التي تمنعها من الانتباه لصيحة الجهاد.
10.مطالبة الوطن الأم بتكثيف المساعدة للمشاريع الاجتماعية التي من شانها أن تخلق جوا من الارتياح والرضا لدى أغلبية سكان الجزائر.
إن هذا البرنامج, في جوهره, لا يختلف كثيرا عن البرامج التي سبقته, بدءا بمشروع بلوم فيوليت وانتهاء عند قانون الجزائر.
ولكن سوستيل محظوظ, لان الثورة كممت أفواه غلاة المعمرين الذين صاروا في معظمهم مستعدين للإصلاح إذا كان المقابل هو السلام والعودة إلى ما قبل نوفمبر سنة 1954.(1)
(1)محمد العربي الزبيري, المرجع السابق, ص- ص 110- 111.
وفي 01/06/1955 تقدم جاك سوستيل للبرلمان الفرنسي, بمشروع الإصلاحات لمناقشته والمصادقة عليه, ولما كان حزب التجمع الشعبي يشكل غالبية أعضاء البرلمان, فقد وافق هذا الأخير على مشروع الإصلاحات.(1)
وقد أوضح السيد سوستيل عند عرض مشروعه على البرلمان الفرنسي أن هذا المشروع سيطبق أولا على المناطق المحرومة والفقيرة. ولكن شريطة أن يسبق تطبيقه قانون حالة الطوارئ في القطر الجزائري. وطالب الحكومة الفرنسية بمساعدات مالية تقدر بخمسة مليارات فرنك لخدمة الإمدادات العسكرية وتطبيق مشروعاته وقانون حالة الطوارئ.
وحسب البنود الواردة في مشروع سوستيل فإن هذا المشروع يخفي بين طياته مخططا رسم بدقة يرمي إلى دمج المجتمع الجزائري ومحو الشخصية الجزائرية العربية الإسلامية فتأخذ أولا صفة تابع ثم تتدرج نحو الدمج والذوبان داخل الإطار الفرنسي.(2)
وإذا كان السيد سوستيل لم ينجح في إخماد الثورة فلأنه لم يملك إلا الوسائل العسكرية ولم يمكن من الوسيلة السياسية. فإذا علمنا أن 100.000 جندي فرنسي لم يتمكنوا من التغلب على 3000 من الثائرين. فما ذلك إلا لأن الجو السياسي قد فسد بصفة خاصة.(3)
(1) د.غالي غربي, المرجع السابق, ص 213.
(2)أحسن بومالي, المرجع السابق, ص 200.
(3)نفسه, ص 202.
المطلب الثاني: مشروع قسنطينة 1958 بعد أن فشلت كل الخطط الاستعمارية لتصفية الثورة, لجأ ديغول إلى خطة جديدة, لعله يحقق بها ما فشل فيه غيره, حيث أن كل حكومة فرنسية كانت تصل إلى الحكم, تأتي بخطة تزعم أنها تصلح ما أفسدته سابقتها, بدعوى أن الشعب الجزائري إنما ثار من أجل إصلاح وضعه الاجتماعي, تحت ظل الاستعمار, وهذا ما كان يدعيه ديغول, حيث أنه لدى زيارته لقسنطينة أعلن عن الرقي الاجتماعي والاقتصادي, كما فعل زملاؤه السابقون.(1) وتمثلت خطة ديغول في مشروع قسنطينة الذي تفتحت عليه عبقريته , وهو مشروع اقتصادي, اجتماعي, ثقافي, طموح, واعد, ولكن مبني على أساس المكر, والخداع, والمراوغة, والتضليل وقلب الحقائق,والقفز على المطلب الأساسي للشعب الجزائري المتمثل في حق تقرير المصير والاستقلال التام للوطن الجزائري ولشعبه الذي لم يكن في يوم من الأيام شعبا فرنسيا ولكنه شعب محتل من السلطات الفرنسية ويكافح من أجل التخلص من هذا الاحتلال الأجنبي الغريب عنه.(2) وكان ذلك في اليوم الثالث من شهر أكتوبر 1958. ويبدو أن اختيار الجنرال ديغول مدينة قسنطينة كمحطة لبث مشروعه هذا لم يكن عفويا, فقسنطينة مدينة داخلية يقل بها المعمرون وإلى جانب ذلك فهي مركزا هاما فيما يخص نشاط الحركة الوطنية, ولاسيما الحركة الإصلاحية التي كانت تقودها جمعية العلماء المسلمين وأكثر من ذلك فهي رمز من رموز المقاومة الجزائرية, وهذه الأمور مجتمعة خولتها لتكون في نظر السلطات الفرنسية وعلى رأسهم الجنرال ديغول "أرضية تجربة اقتصادية واجتماعية بغية عزل الثورة الجزائرية عن الجماهير الشعبية".(3)
(1)محمد لحسن أزغيدي, المرجع السابق, ص 193. (2)بشير كاشه الفرحي, مختصر وقائع وأحداث ليل الاحتلال الفرنسي للجزائر(1830- 1962), المؤسسة الوطنية للاتصال والنشر والإشهار, 2007, ص 202. (3)د.محمد العربي الزبيري وآخرون, كتاب مرجعي عن الثورة التحريرية(1954- 1962), منشورات المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954, الجزائر, 2007, ص 270.
1.أسس مشروع قسنطينة: لقد كان هذا المشروع من أخطر الأساليب التي اتبعتها السلطات الاستعمارية لضرب الثورة الجزائرية وجاء في شكل إصلاحات على مراحل كان بعده الزمني خمس سنوات وقد تناول نقاط هامة نذكرها: (1) • إنشاء 400.000 منصب شغل خلال السنوات الخمس المقبلة(1959- 1963). • تحقيق المساواة في الأجور بين المسلمين والأوربيين في إطار الشبكة المطبقة في المتربول. • ضمان التعليم لثلثين من أبناء المسلمين الذين هم في سن الدراسة. • توزيع 250.000 هكتار على فقراء الفلاحين. • بناء 200.000 مسكن جديد. • إقامة منشآت صناعية ومركبات ضخمة في المدن الساحلية مثل مصنع الحديد والصلب بعنابه ومصنع تكرير النفط بسكيكدة ومركب الغاز الطبيعي بأرزيو.(2) 2.أهداف مشروع قسنطينة: *الظاهرية: إن الأهداف الرسمية لمشروع قسنطينة, التي أعلنت عنها الحكومة الفرنسية فقد تمثلت في الآتي: 1. ضمان زيادة الدخل الوطني الجزائري بنسبة 7.5%. 2. تطوير الجزائر صناعيا "حتى يمكن القضاء على تخلف عدة قرون وحتى تصبح الجزائر قادرة على مسايرة العصر الحاضر". 3. القضاء تدريجيا على الفروق في مستوى المعاشي بين الجزائر وفرنسا وضمان مستقبل تعايش سلمي بين الأوربيين والجزائريين. *الباطنية: إن المتأمل في عرض ديغول للمشروع, وأهدافه يرى أنه يريد من وراء هذا المشروع – وذلك بعد استلامه رئاسة الجمهورية الفرنسية في 8 جانفي 1959 – أن يقضي على الثورة بالمشاريع الإصلاحية, وعن طريقها أيضا يحقق عملية الإدماج, كما أن مشروع قسنطينة لا يريد إصلاحا زراعيا حقيقيا لأن ذلك يتطلب تحقيق أهداف ثورية, تجعل الجماهير الفلاحية هي صاحبة القول الفصل, في تحديد مصير البلاد, ولكنه يريد إيجاد نخبة متميزة عن الجماهير, يستطيع الاستعمار الحديث, أن يستعملها في قمع كل محاولة ثورية. كما يهدف إلى إيجاد طبقة من النخبة في المدن, تستطيع أن تقف بعد ذلك في وجه الفلاحين, الذين تعتبر الإدارة الفرنسية أنها خسرتهم إلى الأبد, وهذا ما يفسر توجيه الاهتمامات كلها إلى سكان المدن, الذين يريد أن يجعل منه مشروع قسنطينة طبقة متميزة, تحكم جزائر الغد, وتقتنع بمزايا الارتباط بفرنسا, أي أنه مطلوب منها أن تحقق ما كان ديغول يأمل تحقيقه, عن طريق القوة الثالثة, التي عجز عن خلقها.(3)
(1) د.محمد العربي الزبيري وآخرون, المرجع السابق, ص 271. (2)د.صالح بلحاج, المرجع السابق, ص 121. (3)محمد لحسن أزغيدي, المرجع السابق, ص- ص 194- 195.
|
3.ما تم تحقيقه من مشروع قسنطينة:
من الثابت أن مخطط قسنطينة من الإنجاز كان أكثر من نصيب كل المشاريع التي سبقته. نورد فيما يلي أمثلة عن إنجازاته في سنه 1959.
*في مجال التربية والتعليم, اندماج حوالي 60.000 طفل في المدارس و 25.000 شاب في مراكز التوجيه والتكوين التي فتحها الجيش والتكوين التي فتحها الجيش في الأرياف. وارتفع عدد المراكز الاجتماعية من حوالي 15 مركزا في 1957 إلى حوالي 60 مركزا في 1959.
*في مجال التشغيل والتصنيع, شهدت هذه الفترة انطلاق الأشغال في مركب الحديد والصلب بعنابه, وفي شهر أوت 1959 انتهت أشغال وضع الأنبوب المخصص لنقل البترول من حاسي مسعود إلى بجاية. في ذلك الوقت كان أنبوب الغاز الرابط بين حاسي الرمل وأرزيو قيد الدراسة وكانت الأشغال فيه على وشك الانطلاق.
*في المجال الفلاحي, انطلقت الأشغال وتحققت بعض النتائج في ما يتعلق بحماية التربة من الانجراف واستصلاح الأراضي وبناء السدود الصغيرة وسقي الأراضي...الخ. لكن في هذا الميدان أكثر من غيره, عرقلت آثار الحرب وأحداثها الجارية إنجاز المشاريع المسطرة.(1)
لقد فشل هذا المشروع كما فشلت المشاريع الاستعمارية الأخرى ورغم أن الدوائر الاستعمارية حاولت التقليل من ذلك وإبراز مبررات لذلك الفشل كانعدام الأمن ولاسيما الضغط الذي كانت تمارسه الثورة على الجزائريين.
رغم أن هذا المشروع يعد تعبيرا عن تطور السياسية الاستعمارية بغية القضاء على الثورة الجزائرية إلا أنه يبدو أنه جاء في وقت كان الشعب الجزائري قد قطع مرحلة هامة من كفاحه ولم تعد مثل تلك الإغراءات لتبعده عن قضيته,(2) وهكذا ظل مشروع قسنطينة حبرا على ورق, لأنه مبني ومؤسس على باطل, وما بني على باطل فهو باطل.(3)
(1) د.صالح بلحاج, المرجع السابق, ص- ص 122- 123.
(2)د.محمد العربي الزبيري وآخرون, المرجع السابق, ص 272.
(3)بشير كاشه الفرحي, المرجع السابق, ص 204.
المبحث الثالث: ردود أفعال الثورة المطلب الاول: ردود الافعال على المخططات العسكرية
1.خطي شال وموريس:
في سياق الحديث عن عملية إنجاز خط موريس, يجدر بنا أن نتساءل عن رد فعل الثورة على إنجاز خط موريس, أو بعبارة أدق, كيف تعاملت الثورة في البداية عندما شرعت القوات الاستعمارية في إنجاز الخط المكهرب؟ هل دفعت المدنيين إلى العمل للاستفادة منهم ماليا؟ أم أنها منعتهم وعرقلت عملية الإنجاز؟ وما الوسائل التي اعتمدتها لتحقيق ذلك؟ وهل أدركت الثورة فعلا أن هذا الخط سيتحول بعد فترة قصيرة إلى خطر حقيقي يعيق سير الثورة ويعرقل امتدادها؟ أم أن هذه الحقيقة سقطت من مجال رؤية الثورة ولم ترد ولو عرضا؟(1)
لقد سبب هاذين الخطين في البداية خللا وارتباكا في البداية خللا وارتباكا فيما يتصل بمشكلة تموين الثورة وتجهيزها بما تحتاج إليه من أسلحة وعتاد, ومرت شهور عديدة دون أن يتمكن المسؤولون من إدخال أي شيء لجيش التحرير في الجزائر, وفي خلال هذه الفترة كانت معسكرات التدريب في تونس والمغرب وليبيا وصحراء مصر الجديدة تبذل الجهود الجبارة لتدريب المزيد من الجنود على فك الألغام وتخريب الخط المكهرب, والتعود على حياة الصحراء القاسية سعيا وراء مقاومة فاعلية هذه الخطوط المكهربة ومواجهة الإستراتيجية الجديدة للاستعمار, وتم إحضار آلات خاصة لقطع الأسلاك المكهربة مع تعطيل أجهزة الإنذار وأجراس الخطر.(2) وفي نفس الوقت, هذه الإجراءات لم تحد من نشاط جيش التحرير الوطني, بل دفعته لتكثيف عملياته بهذه المناطق الحدودية الشرقية والغربية وتمرير قوافل السلاح, فقد كانت وسيلة العبور الأولى تتمثل في تجنب المجاهدين للأسلاك, وحقول الألغام والمرور عبر الشعاب والأودية, ثم جاءت فكرة حفر الأنفاق والمرور من خلالها, ثم اعتمد المجاهدون على طريقة تتمثل في رفع الأسلاك بواسطة أخشاب عازلة والتنقل عبر حقل الألغام, بوضع الحجارة ونظرا لخطورة هذه العملية فقد كانت تتم ليلا, ثم اهتدى إلى فكرة جديدة وقد نجح فيها, وهو استعمال الآلات القاطعة, أصبح جيش التحرير الوطني يقطع الأسلاك ويزيل مفعول الألغام بتلك الآلات الحديثة كما اعتمد المجاهدون على طرق أخرى منها:
ربط سلكين بكابل مطاط وقطعها بطريقة تسمح بمرور التيار الكهربائي وهذا تفاديا لتنبيه أجراس الإنذار, ثم جاءت فكرة استعمال المتفجرات لتخريب اكبر مساحة من الأسلاك.(3)
وفي هذا الصدد يقول الرائد السنوسي:"بدأت الثورة تدرس الخط وعملت الخرائط حسب المناطق وبدؤوا يحضرون جماعة خاصة يستخدمون(البقلور) وهو جعبة طويلة مملوءة بالمتفجرات. وتدخل تحت الخط فتفجر الألغام والخط الكهربائي ثم تمر الجماعة".(4)
وقد أكدت إستراتيجية قيادة جيش التحرير الوطني على أن وحداتها لا تجتاز السد الشائك المكهرب بقوات كبيرة إلا بشروط أهمها:
*توفر اتصالات مؤكدة وسريعة.
*القدرة على تفجير أعمال مضادة للعدو.
*وقع تجهيز القواعد الخلفية بالأسلحة والذخيرة.
*وقع ضرب قوات الاتصالات في القواعد الخلفية للعدو.(5)
وبذلك استطاعت الثورة أن تتخطى هذه العقبة كذلك وتكسر هذا الحاجز الرهيب الذي كان خطيرا حقا في البداية وحصلت معارك تاريخية حول هذا الخط المكهرب وبخاصة في الحدود الشرقية حيث لم يكن الاستعمار يتوقعها لاعتقاده بان هذه الأسلاك الشائكة ذات فاعلية كبيرة جدا.(6)
(1)جمال قندل, المرجع السابق, ص 49.
(2)يحي بوعزيز, المرجع السابق, ص 223.
(3)الطيب بن نادر, المرجع السابق, ص 187.
(4)محمد لحسن أزغيدي, المرجع السابق, ص 185.
(5)د.يوسف مناصريه وآخرون, المرجع السابق, ص- ص 168- 169.
(6)يحي بوعزيز, المرجع السابق, ص 223.
|
|
|
|
2.مخطط شال:
أما عن مواجهة جيش التحرير الوطني لبرنامج شال, فلقد اتبع خطة تمثلت في عدم رد الفعل السريع, لأنه فضل أن يجرب عمليات شال الجديدة حتى يعرف طبيعتها, ليكون فيما بعد أقدر على مواجهتها, وهذا ما جعل الجيش الفرنسي لا يصطدم في عملياته بالولاية الخامسة, بفرق جيش التحرير إلا نادرا, لأن قيادة الثورة أصدرت الأوامر إلى مختلف وحداتها, بان لا تظهر للجيش الفرنسي, ذلك ما أدى بالقيادة الفرنسية إلى الاعتقاد أن الولاية الخامسة تمت تهدئتها.
وبمجرد أن رأى جيش التحرير الخطة الفرنسية الجديدة, واصطدم بالجيش الفرنسي في ناحية الونشريس الولاية الخامسة, سارع إلى الإطلاع إلى القيادة العامة على هذه الخطة, وبادرت بدورها إلى توجيه التعليمات العسكرية الجديدة, إلى مجالس جميع الولايات حتى تعمل بمقتضاها, وتستعد في ضوئها لمواجهة برنامج شال.(1) وعموما فإن السلطات الاستعمارية تأكدت من فشل برنامج شال في كل الميادين.
فمن الناحية الفنية التكتيكية, كيف جيش التحرير كفاحه مع واقع هذا البرنامج وتوزع إلى فرق صغيرة جدا, وكف عن مواجهة جيش الاحتلال في معارك كبيرة, وركز على حرب العصابات, والانتقال على المناطق التي يخليها الجيش الاستعماري بعد أن ينهي فيها عملياته التطهيرية.
ومن الناحية الإستراتيجية فشلت عمليات هذا البرنامج في تحطيم فرق جيش التحرير والقضاء عليها, واضطر جيش الاحتلال طوال عامي 1959 و 1960 أن يواصل القيام بالعمليات العسكرية الضخمة الواسعة التي يحدد لها المكان والزمان مسبقا.
ومن الناحية السياسية فشل مشروع شال في تحقيق انجازات سريعة, وتحطيم خلايا جبهة التحرير, واستمالة السكان إلى الجيش الاستعماري.(2)
(1)محمد لحسن أزغيدي, المرجع السابق, ص- ص 199- 200.
(2)يحي بوعزيز, المرجع السابق, ص 244.
3.مخططات عسكرية أخرى:
بينما كان جيش التحرير يعد نفسه ويجدد تنظيماته في الجبال, كانت جبهة التحرير الوطني تقوم في حزم ونشاط بأعداد جديدة للمناضلين في المدن الكبيرة التي عرفت فترة من الركود النسبي بعد فضائع عام 1957 وعام 1958, لان إطارات الثورة استخلصت العبرة من عمليات القمع الوحشية في المدن, و فضائع عمليات شال في الأرياف, ورأت أن الطريقة المثلى لمواجهة الخطط والأساليب الوحشية الاستعمارية, هو مواجهة الاستعمار بالمدن وفي القرى في آن واحد حتى لا يستطيع أن يتفرغ بكل قواه لإحدى الواجهات دون الأخرى, فتشتت قواته, وتفشل خطط التجميع والإخلاء ويتيه الجيش الفرنسي كله في زحمة الحوادث والفوضى,وتشل حركته ويعجز عن كل عمل بعد ذلك. وهو ما حدث فعلا مابين شهر ديسمبر عام 1960 ونوفمبر عام 1961. فلقد ركزت الثورة عملها الثوري في المدن بالمظاهرات الشعبية الصاخبة والأعمال الفدائية الجريئة, وفي الجبال والمناطق الريفية بالعمليات العسكرية السريعة التي يشنها جيش التحرير دوما وفي حزم ونشاط, ووجدت السلطات الاستعمارية نفسها أمام وضعيتين شاذتين معقدتين: وضعية المدن المتدهورة التي تتطلب سحب قوات ضخمة من البوادي لحمايتها من أعمال الفدائيين التخريبية و هيجان الجماهير الشعبية, ووضعية المراكز العسكرية بالأرياف التي أصبحت عرضة باستمرار لأخطار جيش التحرير, وتتطلب إقامة تحصينات قوية حولها وتركيز قوات عسكرية كبيرة فيها مع المداومة والاستمرار في تزويدها بالمؤن والذخائر الغذائية والحربية.(1)
وهكذا تأكد الاستعمار من إفلاسه وفشله, ولم يجد طريقة للتعبير عن خيباته المريرة إلا إعلان التمرد والعصيان على النظم الدستورية في فرنسا نفسها.
(1) يحي بوعزيز, المرجع السابق, ص 262
|
المطلب الثاني: ردود الافعال على المخططات الاقتصادية والاجتماعية
1. مشروع سوستيل: ما كاد مشروع الإصلاحات يخرج إلى العلن, حتى تعرض إلى سيل عارم من الانتقادات الشديدة واللاذعة تزعمها الجزائريون.(1) وهنا نقول بان الإصلاحات التي تضمنها مشروع سوستيل, لا تفتأ أن تلقى نفس المصير الذي عرفته المشاريع الإصلاحية السابقة. وان فكرة الإدماج, أضحت الآن أمرا قد تجاوزه الزمن.(2) ففي الوقت الذي كانت فيه السلطات الرسمية الفرنسية تدور في حلقة السياسات القديمة الفاشلة, اتخذت جبهة التحرير الوطني مبادرة هامة كانت لها نتائج حاسمة على تطور الثورة, تمثلت في الأحداث و الهجومات التي نظمت بالشمال القسنطيني في 20 أوت 1955, وهي أحداث دفعت السياسة الفرنسية إلى أن تكشف عن حقيقتها عارية, وهي التصميم على إبادة هذا الشعب أن رفض الحياة خارج الإطار الفرنسي.(3) ومن الشخصيات السياسية الجزائرية التي عبرت عن موقفها, فرحات عباس, الذي قال في الإصلاحات:"أنها ناقصة جدا, فقد كان في الإمكان أن نرحب بها في 1920 أو 1930 أو 1939, أما في عام 1955, فلم يعد لها أي صدى في وسط المسلمين".(4)
(1)د.غالي غربي, المرجع السابق, ص 213. (2)نفسه, ص 215. (3)د.عبد الله شريط ومبارك الميلي, المرجع السابق, ص 289. (4)د.غالي غربي, المرجع السابق, ص 215.
2.مشروع قسنطينة: لقي مشروع قسنطينة معارضة شديدة من طرف الجزائريين, فقد رفضوا المشروع بتوجيه جبهة التحرير الوطني.(1) ومن الطبيعي أن يكون ردة فعل جبهة التحرير الوطني ضد ذلك فقد عارضت المشروع ونبهت الشعب الجزائري إلى مخاطره وطالبتهم برفضه ومقاطعته وإلى جانب ذلك قامت الحكومة الجزائرية المؤقتة من جهتها بشرح وتبيان موقفها من ذلك وشرحت للرأي العام العالمي مخاطر المشروع.(2) وجندت كل طاقتها ضده بإصدار المناشير, وإقامة الجمعيات العامة والتصريحات عن طريق الإذاعات, إضافة إلى قمع الاستعمار للمواطنين المستمر الذي ساعد موقف الجبهة إلى حد كبير, ويتضح رفض الشعب الجزائري للمشروع في قول السيد بن طامة:"مثلا في سطيف الشركة ’الجونيفية’ كانت تمتلك حوالي 40 ألف هكتارا قسمت إلى الفلاحين وأقاموا لهم سكنات لكن الثورة وقفت ضده فقاطعت الشعب, كذلك ’الشركة الجزائرية للبنك’ كانت تملك حوالي 200 ألف هكتار في قسنطينة وسطيف فشلت كذلك". وبالنسبة للمدن في قطاع البناء والوظائف, اصطدم البناء بضعف القدرة الشرائية للمواطن, أما الوظائف فقد رفضها الجزائريون كذلك. بهذا الموقف للشعب الجزائري, أصيب مشروع قسنطينة, والمستعمر بخيبة أمل في تنفيذه, بهدف إضعاف الثورة, وإبعاد الشعب عنها, لكن الجزائريين تنبهوا لذلك ورفضوا المشروع من أساسه.(3)
(1)محمد لحسن أزغيدي, المرجع السابق, ص 195. (2)د.محمد العربي الزبيري, المرجع السابق, ص 272. (3)محمد لحسن أزغيدي, المرجع السابق, ص- ص 195- 196.
الخاتمــــــــة وفي الختام نقول بأنه رغم كل هذه المحاولات والمساعي التي استخدمتها فرنسا من اجل إخماد نار الثورة والتي تجسدت في مجموعة من المشاريع و المخططات مثل مشروعي قسنطينة و سوستيل الإصلاحيين بالإضافة إلى الأسلاك الشائكة المكهربة إلا أنها لم تصل إلى الطريق الذي قد يؤدي إلى السلام المنتظر والموعود به من طرف القيادات السياسية المختلفة . وهكذا تفوقت العبقرية الجزائرية في مختلف المجالات وتأكد عجز العدو أمام ثورة شعب طلب الحرية فتحققت أمانيه وأماني شعوب أخرى كانت تحلم بالاستقلال ولم تجده .
|